Monday, December 14, 2009

مدخل لدراسة المثل الشعبي الدارج

مدخل لدراسة المثل الشعبي الدارج

لتحميل النص اضغط هنا


المثل جملة استوعبت حكمة الشعب ونظرته لطبيعة العلاقات الإنسانية بل هو فن من الفنون الأدبية الشعبية والغالب عليها النثر، ولكنه أوسعها انتشارا، بل أكثرها دورانا على الالسنة، ووثوبا إلى الذاكرة، لأنه غرس الحكمة وابن الخبرة ومرآة لكل قوم، يصف أخلاقهم وعاداتهم ونشاهد عدل على لغتهم، ولأنه ينبع من طبقات الشعب كلها. فمن هنا جاءت أهميته في الدراسات الاجتماعية واللغوية و الأدبية والتاريخية. فما هو مدلوله اللغوي و الاصطلاحي؟ وكيف نظر إليه الأدباء العرب والأجانب؟ وما هي سماته الخاصة والعامة؟ وما هو المثل الدارج؟ وهل من خلاف بينه وبين المثل الفصيح؟ وللإجابة على هذه التساؤلات نستعرض تعريفه اللغوي و الاصطلاحي كما ورد في عدد من المعاجم والموسوعات ولدى بعض الأفراد من أدباء وباحثين عرب وإفرنج لتكوين تصور عام لنظرتهم جميعا إليه، ثم نعرف بالمثل الشعبي الدارج لغة واصطلاحا ليتضح الائتلاف والاختلاف مع المثل الفصيح، ونخلص إلى سماتها العامة والخاصة الايجابية والسلبية.

فالمثل في لسان العرب: "مثل بكسر وسكون ومثل بفتحتين وشبه بمعنى واحد". وقد أورد له عدة معان لغوية منها: العبرة والآية والصفة وغيرها(1). كما أكد القاموس المحيط ما أورده لسان العرب من معان وزاد أيضا: الحجة والحديث(2). أما دائرة معارف القرن العشرين فتقول: (مثل) الرجل بين يديه مثولا: قام منتصبا... وماثله: شابهه. وتماثل الشيئان: تشابها(3). وقد أكد كل من الميداني وأبي هلال العسكري والمبرد في(مجمع الأمثال) معنى التشابه والتشبيه والتماثل والمثول(4).

ومن جاس خلال المعنى اللغوي للمثل يتبين له انه يعني المثول الذي يعني الانتصاب والقيام فكما يمثل المرء أمامك بجسده قائما منتصبا، كذلك يمثل المعنى للمثل في ذهنك ويقوم في تفكيرك. وقد كثرت تعريفات المثل وتعددت بتعدد من تناوله بالبحث والدراسة عند العرب والإفرنج قديما وحديثا، وسوف نختار بعض تلك التعريفات التي يطرح وجهات نظر ورؤى أصحابها للمثل من زوايا مختلفة لنخلص إلى تعريف يجمع شتات ما قيل ويكشف عن ماهية الدارج شكلا ومضمونا.

لقد عرفه الكثيرون من العرب ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: إبراهيم النظام المتوفى سنة 221 هجري. وابن عبد ربه المتوفى سنة 328هجري. والمرزوقي المتوفى سنة 421هجري. واليك تعريفاتهم: قال النظام: "يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام هي: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة".(5)

أما ابن عبد ربه فقال: "والأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني، والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم، ونطق بها في كل زمان على كل لسان فهي أبقى من الشعر واشرف من الخطابة لم يسر شيء كسيرها ولا عم عمومها حتى قالوا: (أسير من مثل) (6).

وعرفه المزروقي بقوله: "المثل جملة من القول مقتضبة من أصلها، مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول، فتنتقل عما وردت فيه إلى ما يصح قصده بها من غير تغيير يلحقها في لفظها، وعما يوجبه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وان جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز منها الحذف في ضرورات الشعر ما لايستجاز في سائر الكلام(7).

تلك نظرة ثلاثة من أعلام الأدب القدماء في تعريفهم للمثل الفصيح، فما هي نظرة العرب المحدثين إليه؟

كثر اهتمام العرب المحدثين بالفنون القولية ومنها المثل وتعريفه، فهو في نظر احمد رشدي صالح: "هذا الأسلوب البلاغي القصير الذائع بالرواية الشفهية المبين لقاعدة الذوق أو السلوك أو الرأي الشعبي، ولا ضرورة لأن تكون عبارات تامة التركيب بحيث يمكن أن نطوي في رحابه التشبيهات والاستعارات والكنايات التقليدية" (8).

أما عبد اللطيف الدليشي فيعرفه بقوله: "المثل أدب قائم بذاته سواء ما كان منه شعبيا أو فصيحا يمتاز بقصر العبارة ووضوح المعنى وسهولة فهمه وحفظه وحب التمثيل به، كما انه تعبير حر صادق عن طبيعة العصر في نظمه السياسية وعاداته الاجتماعية ومعتقداته الروحية ومثله وأهدافه" (9).

أما الشيخ محمد رضا الشبيبي ، فيعرفه في تقديمه لكتاب جلال الحنفي (الأمثال البغدادية) بقوله: "الأمثال في كل قوم خلاصة تجاربهم ومحصول خبرتهم، وهي أقوال تدل على إصابة الموجز وتطبيق المفصل، هذا من ناحية المعنى، أما من ناحية المبنى فان المثل الشرود تميز عن غيره من الكلام بالإيجاز ولطف الكناية وجمال البلاغة. وهي ضرب من التعبير عما تزخر به النفس من علم وخبرة وحقائق واقعية بعيدة البعد كله عن الوهم والخيال" (10).

ويعرفه خالد سعود الزين بقوله: "هو القول السائر المصطلح عليه بين عامة الناس وخاصتهم لتعريف الشيء بما سبقه من حوادث مشابهة، أو مما قاله ذو التجربة والعقلاء من الفلاسفة و المفكرين"(11) ويعرفه كمال نشأت بقوله: "حكمة شعبية شفهية مجهولة القائل، لها طابع تعليمي من حيث الموضوع ولون من التركيز من ناحية الصياغة، وان هاتين الخصيصتين ساعدتا المثل الشعبي على الذيوع والانتشار"(121).

ويلاحظ الخلط بين المثل الفصيح والشعبي الدارج لدى بعض المحدثين وليس هذا عبثا بل لان هناك بعض السمات التي تتفق فيها الأمثال الفصيحة والعامية.

تلك كانت تعريفات بعض العرب القدامى منهم والمحدثين للجملة المثلية، أما الإفرنج فعلى غرار العرب شغلهم المثل، فقد وردت له عندهم تعريفات في الموسوعات والمعاجم، أو على ألسنة أفراد قننوا الجملة المثلية وحددوا مفهومها بوضوح.

فدائرة المعارف البريطانية حددت المثل يقولها: "المثل جملة قصيرة، مصيبة المعنى شائعة الاستعمال" (13).

وأما الدائرة الأمريكية فتقول عنه: "هو جملة قصيرة، مصيبة المعنى، تستحضر بلاغة الحقيقة الشائعة وتولد أساسا في المجتمعات الأولى بأسلوب عامي غير أدبي وتكون شكلا(فولكلوريا) شائعا في كل الأجيال" (14).

بينما تذهب دائرة المعارف الفرنسية في تعريفها له بالقول: "الأمثال أصداء للتجربة، والمثل هو اختصار معبر في كلمات قليلة أصبح شعبيا"(15).

وتعرفه دائرة معارف معجم العالم بقولها: "المثل الشعبي هو القول القصير الشائع الذي يجمع حقائق مألوفة أو أفكار مفيدة في لغة معبرة" (16).

وهذه التعاريف تجمع على الطبيعة الشعبية للمثل من حيث دلالاتها المعنوية وصياغتها العفوية البعيدة عن التعقيد، التي تجعل المثل مستساغا في الفهم قابلا للرواية المتداولة على الالسنة ولا يختلف عن ذلك فهم المفكرين قديما وحديثا للمثل، فأرسطو يقول إن المثل: "هو العبارة التي تتصرف بالشيوع والإيجاز وحدة المعنى وصحته"(17) بينما يعرفه(سوكولوف) بقوله: "انه جملة قصيرة صورها شائعة، تجري سهلة في لغة كل يوم، أسلوبها مجازي وتسود مقاطعها الموسيقى اللفظية"(18). ويعرفه(وينر) بقوله: "المثل عبارة عن جملة تغرس في عقول الناس حقائق سامية" (19). أما الشاعر التركي إبراهيم شناسي فيعرفه في مقدمة كتابه (ضروب أمثال عثمانية) بقوله: "هي حكمة العوام تجري على ألسنتهم وتصور ماهية الشعب وهي عامرة بالمعنى الغزير" (20) أما ترزي باشا المحامي فيقول في تعريفها: "التمثال ضرب من الكلام يدل السامع إلى الطريق المستقيم، ويلقنه المفاهيم بصورة مبسطة موجزة، وتكون هذه الأقوال موزونة مموسقة مؤطرة بالإيجاز مع الاحتفاظ بالبلاغة و الاحاطة الكلية، وفيها الحكم الحاسم للموضوع. وهي ذات كناية مستحبة ووقع جاذب في السامع، وهي تنشد الفائدة والخير للعموم" (21) ويعرفه (زايلر) بقوله: "القول الجاري على ألسنة الشعب الذي يتميز بطابع تعليمي وشكل أدبي مكتمل يسمو على أشكال التعبير المألوفة" (22). أما كراب فيعرفه قائلا: "المثل يعبر في شكله الأساسي عن حقيقة مألوفة، صيغة إلى أسلوب مختصر حتى يتداوله جمهور واسع من الناس، وقد يعبر عن الحقيقة بطريقة حرفية فيكتفي بترديد هذه الحقيقة كما هي الحال بالنسبة لأمثال المواعظ، وقد يعبر عن هذه الحقيقة، وقد يلجأ إلى استخدام الاستعارة(23)".

وهكذا يبدو أن الأدباء والباحثين من عرب وأجانب قد نظروا إلى المثل من خلال ثقافتهم ومعارفهم وعصورهم المختلفة، رغم محاولتهم جميعا تأكيد تعريف معين إلا إن استعراض مجموعة التعريفات السالفة الذكر، تبين انه يوجد نوع من التكامل اللغوي الأدبي بينهم، فقد وضع الأدباء والباحثون أيديهم على ركنين أساسيين من أركان المثل هما: الإيجاز أو التركيز والشيوع أو الانتشار، فقد سلموا بان المثل جملة موجزة شائعة بين الناس وحاول كل منهم أن يضيف إليها ما يزيدها وضوحا، ويميزها عن غيرها من سائر الفنون القولية بإيراد بعض سماتها من زوايا ورؤى خاصة ويمكن إجمال سماتها الخاصة الأخرى فيما يلي:

1) أنها خلاصة التجارب ومحصول الخبرة الواقعية.

2) أنها تحتوي على معنى يصيب التجربة والفكرة في الصميم.

3) أنها ذات صيغة تهذيبية تعليمية.

4) أنها ذات أبعاد زمانية وقائلية مجهولة في الغالب.

5) أنها ذات شكل أدبي مكتمل.

6) أنها ذات سمو على الكلام المألوف رغم أنها ذات طابع شعبي، لأنها تعيش في أفواه الشعب.

ولا بد من ملاحظة اهتمام الإفرنج بالجانب الموضوعي أكثر من اهتمامهم بالجانبين الأدبي واللغوي على خلاف القدامى من العرب، وقد بدأ المحدثون من أدباء العرب ينهجون النهج الإفرنجي في نظرتهم إلى الجملة المثلية الدارجة على أساس من الموضوع، كما وجدوا أنها تصلح أساسا لدراسة الحركات الفكرية والاجتماعية والخلقية للمجتمع، حيث تعرض فيها التجارب التي مر بها أفراد الشعب مجسدة في شكلها ومضمونها على حد سواء. كما يمكن ملاحظة الخلط في التعريف بين المثل الفصيح والدارج. فما هو المثل الدارج لغة واصطلاحا؟ وما الفرق بينه وبين المثل الفصيح؟

وللإجابة على هذين التساؤلين نقول: المثل الدارج لغة من الفعل(درج) بمعنى دب واخذ في الحركة: درج الشيخ والصبي يدرج درجا ودرجانا ودريجا فهو دارج: مشى مشيا ضعيفا ودبا. قال الشاعر:

يا ليتني زرت غير خارج أم صبي قد حبا ودارج (24)

وجاء في المنجد (الدارج) اسم فاعل. تراب دارج: تثيره الريح وتدرج به ويقال (صبي دارج) إذا دب ونما (25).

أما المثل الدارج اصطلاحا فهو: "تجربة إنسانية وليدة الاختبار أو الوجدان أو التمرد والحرمان، يعكس واقع البيئة، وهو ثمرة من ثمراتها شائع الاستعمال، مجهول القائل في الغالب صيغ بلفظ شفوي عامي بلاغي وجيز ومعنى شامل، ذي طابع تهذيبي أو تهكمي، قيل في مناسبة ما اخذ ينسحب على تجارب إنسانية مماثلة دون أن يفقد وظيفته الأولى " (26).

يتبين مما سبق أن المثل الشعبي الدارج هو الحصيلة الشفوية لخبرة الشعب اليومية وتجربته السلوكية في الحياة، كما يبدو أن التعريفات مهما اختلفت زمانا ومكانا فإنها تتفق إلى حد ما ولو في بعض عناصرها، لأن الأصل واحد والتربة تكاد تتشابه فمصدرها الشعب وتربيتها كذلك. والحقيقة التي لا هراء فيها أن الأمثال الشعبية الدارجة تختلف مع الفصيحة في الناحية الشكلية، فقد صيغت اللهجة الأولى بالعامية(الدارجة) بينما صيغت الأخرى بالفصيحة(اللغة السليمة).

أما السمات الأخرى فليس بينها كبير خلاف. وتتجلى سماتها العامة في كونها تمثل: نوعا من الفلسفة الشعبية الأصيلة غير المدروسة أو المخطط لها، ومع ذلك فهي تملك منهجا يفوق الصفات الدراسية ذات المناهج لأصالتها وعراقتها المستمدة من الناس أنفسهم، فهي بضاعة محلية خالية من الغريب المستورد ونتاج بكر توارثه الخلف عن السلف دون أن تشوب نسيجه الساذج شوائب التأثر بثقافات أخرى عابرة أو وافدة أو مستقرة، ودون أن يغير من طبعها حسن الحضارة وزخرفتها المصطنع. ولذا فإنها بواقعيتها المستمدة من واقع الحياة ونتيجة مباشرة للخبرة والتجربة الفردية، وهي تصدق في كثير من الحالات على واقعية الحياة الأنانية الشعبية بأبعادها المختلفة, فهي تعبر عن أصالة المناخ والبيئي والطابع المحلي للخلفية الاجتماعية، إضافة إلى كونها اجتماعية كالوصفات الطبية لتوظيفها في الحياة الشعبية. هذا إلى جانب سماتها الأخرى كالجمالية والترفيهية والذاتية والجماعية وتداخلها مع فروع الفنون والمعرفة الشعبية الأخرى.

تلك بعض سماتها الايجابية وهي في الوقت نفسه لا تخلو من الهنات كما لا يخلو الغيث من العيش فهناك أمثال شعبية لها معان تتعارض طبيعة الإنسان وتكريمه كقول البدو:(إن كبر شيخكم رعوة الغنم) وأخرى تتعارض مع القيم كقولهم: (شكلك غلط)।


http://www.najah.edu/index.php?news_id=5480&page=3171&l=ar

No comments:

Post a Comment