Monday, December 14, 2009

الخبز

الخبز


30/08/2009

لتحميل النص اضغط هنا

الخبز

لعبد العزيز ابو هدبا

ستنتناول في هذه الحلقة مرحلة طحن الحبوب: التي هي المرحلة الثانية في عملية اعداد الخبز، حيث يصبح القمح بعد ذلك- اي بعد طحنه- جاهزا للعجن الذي سوف يتحدث عنه في الحلقة القادمة.

ان عملية الطحن- كما هو معروف- قديمة جدا، حيث استخدم الانسان ما تيسر له من وسائل و ادوات للقيام بهذه العملية، و من الوسائل التي استعملها قوة الإنسان، والحيوان و الماء و الهواء، اما الادوات فقد تركزت على الادوات الحجرية، ولكنها كانت باحجام و اشكال مختلفة لتتناسب مع مدى التقدم التكنولوجي في صناعتها، كما و تتناسب مع الوسيلة "القوة" التي تعمل على تحريكها، فمنذ ايام الكنعانيين استخدمت حجارة الرحى. وفي العصور الرومانية استعملت قوة الماء قي ادارة الطواحين الى جانب قوة البهائم كالحمير والبغال، والثيران.

اما في العصور الاسلامية فقد وجد في معظم القرى الاردنية والفلسطينية معصرة زيتون و طاحونة للدقيق واستخدم الفلاحون الطواحين(الارحية) في طحن حبوبهم، فينقل الفلاح حبوبه على دابته الى الطاحونة- والمدة التي يقضيها في الطاحونة منتظرا دوره، كانت فرصة له يلتقي باصدقائه القريبين و البعيدين، اما القوة الرئيسية المحركة فكانت البهائم.

اما الحجارة المستخدمة في المعاصر فكانت تؤخذ من اماكن معروفة في الاردن وفلسطين مثل المكان الموجود بالقرب من قرية ادر الاردنية والذي يسمى مقطع حجارة الطواحين وقد اتخذ البعض من طحن الحبوب مهنة لهم كما يذكر ذلك د. يوسف غوانمة. وخلال القرنين الماضيين و حتى مطلع هذا القرن، كان الماء هو القوة الرئيسية المحركة للطواحين في شمال فلسطين وذلك بسبب جريان الماء في معظم ايام السنة بالاضافة الى قوة انحدار الماء و ذلك لطبيعة البلاد الجبلية بينما نجد ان الحيوان والانسان هي القوة الرئيسية للطواحين في اواسط البلاد وجنوبها.

فاذا تجولنا في الشمال نجد ان آثار وبقايا طواحين الماء لا تزال شاهدا على كثرة استعمالها في تلك المناطق فنراها بالقرب من معليا والبقيعة، وبالقرب من عكا حيث نجد هناك ضاحية اسمها الطواحين وضاحية بالقرب من حيفا اسمها مطحنة كردانة، وفي وادي الشعير في شمال البلاد نجد اسماء لاثنا عشرة طاحونة.

كما نرى ان استعمال الماء كقوة محركة للطواحين يمتد الى مناطق نابلس مثل الباذان والعوجا كما نشاهد بقايا طواحين الماء على الطريق بين نابلس وطولكرم. وقد تناول الاستاذ شكري عراف تكنولوجيا هذا النوع من الطواحين بالتفصيل وبين ان الطوربينة في بلادنا كانت افقية الوضع وهي تختلف عن دواليب اوروبا العامودية والتي خسرت كثيرا من قدرتها عند تحريكها للطاحونة. واذا اتجهنا الى الجنوب فان الاعتماد على قوة الماء ياخذ بالتناقص حتى ينعدم في جنوبي البلاد بينما يزداد الاعتماد على قوة الحيوان في عملية الطحن، فاذا تجولنا في الجنوب فاننا من النادر ان نرى آثار وبقايا مطاحن الماء.

ويذكر الاستاذ عارف العارف ان سكان غزة طحنوا قمحهم حتى عام 1893 بمطاحن اديرت باليد، وكان في كل دار طاحونة كهذه، ثم انشئت طاحونة تدار بالخيل وتلتها اخرى اديرت بالفحم الحجري، وفي ايام الانتداب فقط عملت المطاحن بالبترول.

ونظرا لطول الوقت الذي سينتظره الشخص حتى ياتي دوره في الطحن، كذلك لطول المسافة التي يقطعها حتى يصل الى الطاحونة، ثم الحالات الاضطرارية في الحاجة الى طحين، كل هذه الامور دعت ان يكون في كل دار طاحونة تدار باليد كما سبق ان ذكرنا اذ كان من النادر ان يخلو بيت من طاحونة يدوية يدوية كبيرة للطحن الناعم، او صغيرة مجرشة للطحن الخشن (الجرش) واذا كان استعمال الطاحونة اليدوية لطحن الحبوب قد انعدم الا اننا لا زلنا نستعمل (المجرشة) حتى اليوم في جرش الفريكة، العدس، والكرسنة، والجلبانة، والذرة، والقمح للسميد.

وسوف نتناول بالحديث الطاحونة، والتي تمثل الزاوية الاساسية في التكنولوجيا الشعبية في مجال طحن الحبوب.

صنع الطاحونة: تصنع هذه الطواحين من حجر البازلت الذي يتصف بالصلابة و ثقل الوزن كما انه لا يخرج (الشرار) عند نحته(دقة). ويميل لون هذه الحجارة الى السواد وتؤخذ قليلا من منطقة الاغوار وطبريا وسيناء والجولان وحوران. حيث تستخرج من محاجر معينة، ويقوم اشخاص متخصصون بصنعها(دقها) وزخرفتها احيانا ببعض الرسوم والصور كالهلال والصليب وغيرها، ثم عرضها للبيع بعد ذلك.

وتتكون هذه الطاحونة من قطعتين من الحجر دائريتين منبسطتين تسمى السفلى منها بالفردة التحتا، والعليا بالفردة الفوقا، وينقش هذان الحجران نقشا ناعما الى حد ما(مسمسم) بحيث يبقى ملمس الوجه العلوي للفردة السفلى، والوجه السفلي للفردة العليا خشنا نوعا ما لان هذه النتؤات في وجهي الطاحونة هما المعول عليهما في عملية الطحن، وعند صناعة الطاحونة تعد الفردة السفلى بنقشها وجعلها دائرية، وتبقى في وسطها منطقة دائرية اعلى من السطح بقليل يبلغ قطرها حوالي 8 سم، حيث تعمل فتحة في وسط هذه المنطقة ويثبت فيها قضيب من الحديد يسمى(القلب)، اما الفردة العليا فانها تنقش وتعمل دائرية كذلك، وتحفر في وسطها منطقة تسمى(الحلق) يثبت في هذا الحلق بشكل افقي ومع مستوى سطح الفردة السفلى قطعة من الخشب مثقوبة من وسطها تسمى(الفراشة)، كما يحفر من على بعد 5 سم من محيط الفردة العليا حفرة بعمق 3 سم بشكل مائل يوضع فيها قطعة دائرية من الخشب تسمى(اىيد) وهي القطعة التي تمسك بها المراة عند تشغيل هذه الطاحونة. هذا ويتم وضع الفردة العليا على السفلى بحيث يدخل القلب في الفتحة الموجودة في وسط الفلراشة، ومقاييس الطاحونة تكون حول الارقام التالية:

قطر كل من الفردتين التحتا والفوقا 44 سم.

سمك الحجر 4 سم لكل فردة.

طول القلب 10 سم.

طول الفراشة الخشبية 8 سم وهو نفسه قطر الفتحة في الفردة العليا. طول الايد الخشبية 22 سم فوق سطح الحجر بحيث تسمح بان تمسك باليد امراتان عند الضرورة وعرض الفراشة 4 سم 3 سم داخل الحجر اما بعد اليد الخشبية عن حافة الفردة العليا نحو 5 سم.

اما المجرشة فمقاييسها هي حول الارقام التالية:

قطر الفردة 35 سم، طول اليد 19 سم، سمك الفردة 4 سم، طول الفراشة 7 سم وعرضها 3 سم.

ومن هذا نلاحظ ان الفرق الحقيقي بين الطاحونة والمجرشة هو في طول محيطها وبالتالي اتساع سطحها، وهذا بالتالي يجعل الطاحونة اثقل من المجرشة، وهذا الثقل يجعل العرض من كل منهما يختلف عن الاخر، فثقل الطاحونة يساعد على تنعيم الطحين بينما المجرشة لاتستطيع ذلك.

هذا ويمكن ان يقوم بعض النساء بعمل حوض من الطين توضع عليه الفردة السفلى وتثبت به، كما يرتفع الطين حول الفردتين بحيث يصبح موازيا لسطح الفردة العليا، بينما يعمل فتحة جانبية في الطين لينزل منها الطحين.

وقد يلف حول الفردة السفلى طوق من الحديد وقاية من الكسر، او عند ظهور شعر(كسر خفيف) في الفردة، اما اذا كان الكسر واضحا فان الفردة لا تصلح للاستعمال وذلك لدخول الحبوب في داخل الكسر.

واذا كان صنع الطواحين قد توقف هذه الايام لانتشار عملية الطحن الآلي، الا ان البعض لا يزال يقوم بصنع(المجرشة) لانها لا زالت تستعمل، ففي قرية المغير قضاء رام الله يقوم عبد المنعم ساري بصنع الجواريش من حجر احمر يستخرج من محاجر القرية، حيث يقوم بدق الفردة التحتا والفردة الفوقا، وتركيب القلب في الفردة التحتا، كما يقوم بصب كمية من الباطون على الفردة الفوقا حيث ثقيلة وحتى يتم تثبيت(ايد المحرشة) مع الفردة الفوقا دون عمل خرق فيها وكذلك يصبح الحجر اقوى.

عملية الطحن: قبل بدء عملية الطحن تضع المراة الفردة السفلى على كيس من الخيش، او طبق من القش ليثبت الطاحونة ولينزل عليه الطحين، هذا اذا لم تكن قد عملت حوضا من الطين للمطحنة، ولا توضع الطاحونة على طبق من المعدن او على البلاط مباشرة، لان ذلك يعمل على اخراج صوت مزعج للطاحونة، كما ان الطاحونة لا تثبت بل تتحرك اثناء العملية مما يجعل العملية صعبة، وعندما تجهز المراة القمح للطحن تضعه في وعاء من القش(قدح، مطحنة) بالقرب منها، ثم تجلس على الارض قرب الطاحونة وتطوي احدى رجليها نحو جسمها، بينما تمد رجلها الاخرى الى الامام، وتمد احدى يديها الى القمح و(بتلهي) (10) في يدها كمية من القمح قائلة(بسم الله الرحمن الرحيم يا بركة الاخين اللي ما خانو بعضهم) ثم تضع القمح في حلق الطاحونة حول القلب وفوق الفراشة، وتمسك(ايد) الطاحونة وتحركها حركة دائرية بعكس عقارب السلعة ان كانت تطحن بيدها اليمنى، والسبب في ذلك ان الحركة في هذا الاتجاه اسهل على المراة وايسر في عملية الطحن حيث تقوم بدفع الطاحونة اولا حوالي نصف دائرة وتكون يدها حرة الحركة، ثم تقوم بسحبها لتكمل الدورة دون ان يعيق جسمها حركة اليد.

اما اذا كانت تمسك يد الطاحونة بيدها اليسرى فحركة الطحن تكون مع عقارب الساعة للسبب نفسه.

ثم تقوم المراة بجمع الطحين وتنخله وتعيد طحن الخشن منه ثانية وربما ثالثة اذا ارادت طحينا ناعما تماما. وعملية الطحن بهذه الطريقة تستغرق وقتا طويلا، يعيق المراة عن القيام باعمالها داخل البيت وخارجه، لذا فان معظم عمليات الطحن كانت تتم اثناء الليل حيث تحضر المراة(عجنة) اليوم التالي، ومما يذكر في هذا المجال انه في ايام الحصاد كان بعض النساء ياخذن معهن حزمة قش القمح(غمر) الى البيت ثم تقوم بفصل الحبوب عن القش(وذلك بدق السبل) وتنقيتها ثم طحنها وعجنها وخبزها وتسرح(11) معها الى مكان الحصاد الخبز الذي تعده طعاما لليوم التالي.

وغالبا ما تردد المراة اثناء عملية الطحن بعض الاغاني التي تتناسب وحركة الطاحونة وهي اغاني الترويدة حيث تقول بعض النساء ان ترديد الاغاني يهون عليها العمل بالاضافة الى انه وسيلة لبث احزانها.

عندما تستخدم الطاحونة مدة طويلة(تذوب النتؤات) في وجهيها اللذين يدوران فوق بعضهما.

وهذا يجعل الطاحونة غير صالحة للقيام بعملية الطحن بالوجه المناسب، لهذا تحتاج الطاحونة الى عملية اصلاح وهي عملية نقش وجهي الطاحونة الداخلية(اي الوجه العلوي من الفردة السفلى، والوجه السفلي من الجهة العليا)، وكان يقوم بعملية النقش اشخاص متخصصون يستعملون ادوات نقش صغيرة خاصة بذلك ويطوفون بالقرى وهم ينادون ليخبروا الناس بقدومهم ويذكر البعض ان اجرة نقش حجري الطاحونة كانت اواخر الحكم التركي 20 بارة و 10 قروش ابان حكم الانتداب.

وقد تركت عملية الطحن اثارها في جانب اخر من تراثنا الشعبي فهناك بعض الامثال الشعبية التي ورد فيها ذكر لعملية الطحن، وتقال فيها مناسبات معينة، فاذا اردنا حث الانسان على ان لا يطلع الناس على كل اموره عليه إخفاء ما يمكن اخفاؤه نقول له( اطحن ع سبع طواحين، واخبز باب دارك) ويقال كذلك( ما في راحة والحب على الطاحونة) للحث على انجاز العمل. وعند وقوع الشدة يقول من امن نفسه( الملحات في الصرة، والطحينات في الجرة)، اما اذا اردنا بيان عدم جدوى عمل معين فنقول( اطحن المي بتطلع مي). ويقال:( يا ماشي الدربين عالطاحونة) اي ان كل الطرق تؤدي الى الهدف الذي تريده. وعندما ترغب المراة في الخروج من بيتها الى بيوت الجارات وتناول الاحاديث معهن تقول( طاحونتي ما بتطحن لي وبيتي ما بخرفني).


http://www.najah.edu/index.php?news_id=5466&page=3171&l=ar

No comments:

Post a Comment