Monday, December 14, 2009

أستاذة في معهد العلوم الإجتماعية- الجامعة اللبنانية

د. ماري أشقر

أستاذة في معهد العلوم الإجتماعية- الجامعة اللبنانية

مقدمة

تحاول هذه المقالة طرح سؤال أساسي يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل باحث يحاول دراسة أي ظاهرة من ظواهر المجتمعات العربية وتحليلها, سواء أكانت إجتماعية أم إقتصادية أم سياسية, والتي تتعلق بالمفاهيم التي حددها علم الإجتماع الغربي لدراسة المجتمع, خصوصا, علم الإجتماع الأمريكي في العقد الأخير هل هي حقا علمية؟ ومن ثم, هل نستطيع تطبيقها على جميع المجتمعات؟ وهل التقنيات المختلفة وأدوات التحليل التي وضعها هذا العلم هي حقا تقنيات موضوعية وصحيحة تساعدنا على دراسة الظواهر الإجتماعية المختلفة, ومعرفة طبيعة المشكلات العديدة التي تواجهنا في هذا المجال أو ذاك؟ وقد آثرنا هنا الا نطرح الموضوع بشكل عام, بل أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال تناول موضوع الرأي العام وكيفية قياسه. ويرجع ذلك لكونه مجالا حظي في الآونة الأخيرة باهتمام كبير من قبل الباحثين الإجتماعيين في بلادنا خصوصا في ميدان الأبحاث التطبيقية.

وقد أصبحت دراسات الرأي العام وتطبيق تقنيات العينة والإستبيان والتحليل الإحصائي التي تستخدم لقياس اتجاهات الرأي العام هاجس مراكز الأبحاث في المجالات العديدة, وقامت من أجل ذلك شركات تجارية متخصصة لتضع نفسها في خدمة الصناعة الإستهلاكية, ودراسة الأسواق والأمزجة العامة, كما في خدمة المعارك الإنتخابية ورجال السياسة أو في دراسات التخطيط والإدارة وفي وضع مشاريع التنمية... الخ. وكأن استخدام هذه التقنيات والأدوات قد أصبح الطريق إلى الدراسة الموضوعية والعلمية والمفتاح الأول لمعرفة المشاكل التي تواجه مجتمعاتنا. ومن ثم راح البعض يعتبرها الشرط الأساسي لإكتشاف الحلول لمشاكل الأمة. ومن هنا, كان من الضروري مناقشة هذه المقولات من خلال تناول موضوع الرأي العام. وما هذه المناقشة إلا محاولة أولية تهدف إلى طرح بعض التساؤلات أو وضع الخطوط العامة لكيفية الإجابة عنها. بيد أنها محاولة تهدف إلى تغيير مجرى النهر لا إلى تعميقه أو توسيعه أو منع الإنهيارات عن جوانبه. مما يجعلها تختلف عن تلك الإنتقادت التي توجه إلى هذه الأبحاث في محاولة للإبقاء على جوهرها مع تفسير قصورها بسبب الصعوبات المادية أو الإمكانات البشرية أو حداثة التجربة... الخ. بينما المطلوب هنا طرح الأسئلة الأساسية حول طبيعة المفاهيم المستخدمة والمنهج المتبع والتقنيات المطبقة. ألم يحن الوقت لأن نتخلص من عقدة "العلمية" و"الموضوعية" والتقنيات الفعالة والمفاهيم العالمية التي وضع لنا أسسها وشروطها علماء الإجتماع الغربيون. ألا يحق لنا أن نتساءل وقبل الشروع بأي بحث علمي هل هذه هي حقا الأدوات الافضل لمعرفة مجتمعاتنا وتحليل بنيتها ومؤسساتها ومشاكلها؟

أولا: الرأي والرأي العام كما يحددهما علم الإجتماع الغربي

الرأي هو دائما التزام فردي, أي أن الفرد يشعر أن هذا الرأي ملك له على الرغم من أنه يتكون بفعل تأثيرات خارجية أو يكون قد سمعه من شخص آخر لكنه يتبناه ويقتنع به ويدافع عنه. ويجب التفريق بين الأقوال والآراء, لأن هناك أشياء كثيرة يقولها الفرد منها معلومات قرأها أو سمع عنها, منها ما يقوله خوفا أو تمشيا مع أقوال الأكثرية فهذه ليست آراء. ولا يمكن القول إن كل تعبير شفوي هو رأي بل الرأي هو ما يشعر الفرد أنه مقتنع به اقتناعا تاما حتى لو تغير هذا الإقتناع بعد فترة من الزمن. وكذلك يجب التفريق بين الرأي والتصرف لأن هناك آراء لا تترجم إلى تصرفات وإن التصرفات يمكن أن تأتي أحيانا كثيرة مخالفة للآراء مع أن هذه الأخيرة تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر في التصرف.

الرأي هو حكم على الأشياء لتقويمها رغم أنه يقدم نفسه وكأنه يتكلم عن الواقع. فالفرد يحاول دائما إظهار آرائه وكأنها موضوعية وتستند إلى الوقائع, لكنه في الحقيقة, يقدم تقويمه للأمورفي الغالب أي أنه يفضل, يختار, يعود إلى قيم معينة, ما يحبه, ما يؤمن به ما يعتبره عادلا أو غير عادل...الخ. إن الفرد يحاول دائما الإستناد إلى حقائق موضوعية لكن رأيه يبقى في كل الأحوال تقويما لهذه الحقائق أو الوقائع وليس سردا لها. أي أن الرأي فيه دائما شئ ذاتي, وتختلف درجات وعي ذاتية الرأي وطابعها التقويمي بحيث يعتبر أن هذا الوعي يزداد مع إزدياد الإقتناع بحدود المعرفة عن الموضوع أو الكفاءة في تقويمه. ويتضاءل الوعي لذاتية الرأي مع إقتراب هذا الأخير من المسائل التي تهمه مباشرة أو تمس حياته الشخصية, ولكن على الرغم من الوعي بإمكانية وجود ذاتية معينة في الرأي يصر الفرد دائما على تقديمه. وكأنه حقيقة مطلقة ومجرد تبنيه له يعني أنه مقتنع بصحة هذا الرأي.

الرأي إذا هو حكم على شيء, على شخص, على حادثة أو على معلومات معينة. وعلى الرغم من أن الوقائع والحقائق يمكن أن تشكل أحيانا مادة للآراء ومصادر لتكوينها أو تغييرها إلا أنها ليست آراء.

أما الرأي العام فهو يعتبر حصيلة أي معدلا إحصائيا أو مجموعة عناصر مشتركة لمجموع الآراء الفردية في مجتمع معين. وإذا كانت هناك حصيلة للآراء الفردية فهذا يعني أنه يوجد عوامل موضوعية خارجة عن إرادة الأفراد تكّون الآراء الفردية وبالتالي الرأي العام.

1- مصادر تكوين الآراء

تركز الأبحاث على طرح لائحة من العناصر التي تعتبر مؤثرة في تكوين الآراء الفردية, ويصار إلى تحديد أهمية كل عنصر من هذه العناصر وكيفية تأثيرها في تكوين الآراء الفردية. وهذه العناصر هي بالطبع أيضا العوامل التي تؤثر في تكوين الرأي العام لأن الرأي العام ليس إلا التعبير عن ىراء أكثرية الأفراد. ونعرض هنا بعض هذه العوامل التي تعتبر فاعلة في تكوين الآراء, وهي تقسم إلى نوعين:

أ‌- العوامل الفردية:منها الدوافع الفردية وطبيعة شخصية الفرد ومستوى الطموح عنده.. كالتأكيد على أن المراهقين أكثر تطرفا في آرائهم, أو أن المواقف الفاشية والمتعصبة والآراء العنصرية تفسرها العقد النفسية والأزمات الشخصية. ومستوى المعرفة أيضا عند الفرد أي المعلومات والتجارب التي يملكها حول هذه أو تلك من الموضوعات والتي تؤثر في تبني آرائه حول هذا الموضوع. ويمكن ذكر دراسة العالم الألماني "أدورنو" مثلا حول "الشخصية المستبدة" في المجتمع الألماني في الخمسينات فقد حاول أن يثبت أن هناك نوعا من الشخصيات هي بطبيعتها متسلطة وتتميز بالجمود الفكري والتعصب وثقة كبيرة في النفس ويعتبر أدورنو أن هذا النوع من الشخصية يميل إلى إتخاذ مواقف محافظة جدا ومتطرفة ومساندة للديكتاتورية. وهذه الدراسة ليست إلا نموذجا من منهج عام في الأبحاث يحاول تفسير آراء الأفراد وتصرفاتهم السياسية من خلال طبيعة الشخصية ومشاكلها وعقدها النفسية وبشكل خاص شخصيات الزعماء السياسيين التي يسمح تحليلها النفسي بتفسير المواقف السياسية لهؤلاء الزعماء.

ب- العوامل الإجتماعية: منها تأثير الأفراد من خلال العلاقات الشخصية أو تأثير فرد مميز هو القائد أو الزعيم أو البطل, ومنها ضغط الجماعة او ما يسمى بضغط التماثل الذي يدفع الفرد ان تبني اراء المجموعة التي ينتمي اليها. ومنها تأثير التربية وتأثير المركز او الدور الاجتماعي للفرد. واخيرا تأثير العوامل الاجتماعية المختلفة, منها : الظروف التاريخية, العوامل الاقتصادية, والاحداث المختلفة التي يعايشها الافراد وهي تؤثر في تكوين ارائهم او تغييرها.

ونستطيع هنا ابراز نقاط كثيرة حول هذا المنهج في طرح موضوع الرأي ومصادر تكوينه. ان تعريف الرأي والرأي العام يظهر بشكل واضح الخلفية النظرية للعلاقة بين الفرد والجماعة, فهو يعطي الاولوية ( في الاهمية وفي الزمان ) للفرد وتعتبر الاراء الجماعية مجرد حصيلة احصائية للاراء الفردية. اما فيما يتعلق بمصادرتكوين الاراء, فعلى الرغم من الاشارة الى العوامل الاجتماعية واهميتها تبقى الاولوية للفرد لانه يتم التركيز دائما على العوامل الفردية. ومن ناحية اخرى لا تستطيع الابحاث كشف ما هو أساسي وما هو ثانوي في العوامل المختلفة, فتبقى ردة فعل كل فرد من الافراد على مختلف العوامل والطريقة التي يتأثر بها هي الحاسمة في تحديد اهمية هذا العامل او ذاك في تكوين الاراء.

اما فيما يتعلق بالمنهج الذي يقود الابحاث حول تكوين الاراء فهو المنهج نفسه السائد في

جميع أبحاث علم الإجتماع الغربي. ذلك أنه يبدأ بتجزيء الظاهرة الى عناصرها المختلفة ويدرس كل عنصر من هذه العناصر على حدة (لأن الظاهرة معقدة ولا يمكن دراستها بشكل دقيق إلا بعد تفتيتها إلى مختلف أجزائها ). من ناحية أخرى تختزل هذه الظاهرة ومختلف العناصر التكوينية فيها إلى تعبيراتها الخارجية الشكلية (لأن بحث أي عنصر غير قابل للقياس الدقيق سيؤدي إلى نتائج ذاتية ويحد من موضوعية البحث ومدى علميته).

يقول ميلز في نقده للمنهج التجريبي السائد في علم الإجتماع الأمريكي أن تطور علم الإجتماع أصبح شبيها "بألعاب البناء" التربوية أي أنه يسود الإعتقاد أننا سنستطيع في المستقبل تجميع الأبحاث المتكاملة وتراكمها حتى تصبح بناء متكاملا أي كما يفعل الأطفال حين يبنون البيوت من قطع خشبية يرصفونها فوق بعضها. ويتابع ميلز قائلا " إن هذا التجميع للمعلومات لا يستطيع أبدا أن يجيب عن الأسئلة الفعلية التي يطرحها الواقع الإجتماعي لأن مجرد تجميع معلومات تفصيلية حول هذا أو ذاك من أجزاء ظاهرة إجتماعية معينة لا يستطيع أن يبني نظرية عامة تفسيرية لهذه الظاهرة فالدراسات الجزئية لن تعطي إلا مواد إعلامية فتكثر مراكز الأبحاث وتتعدد الموضوعات والمشاكل الجزئية دون أن نرى أي صلة فيما بينها".

نرى مثلا في موضوعات علم الإجتماع الأكثر رواجا كموضوعات الدعاية ووسائل الإعلام الجماعية والرأي العام أن الدراسات تنحصر بالبنى الأمريكية الحالية التي لا تعود إلى أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة أي أنها تنحصر في حدود تاريخية وبنيوية ضيقة جدا فتتوصل مثلا إلى تصنيف دقيق للأفراد الذين يستخدمون وسائل الإعلام الجماعية. زتدرس بشكل دقيق التصرف الإنتخابي وتصنيف مئات الناخبين حسب الأسباب المباشرة التي تفسر إختياراتهم لكنها لا تستطيع التوصل إلى تحليل علمي شامل لوسائل الإعلام الجماعية كما أنها لا تتطرق بأي شكل من الأشكال إلى النظام السياسي الذي يعتبر لعبة الإنتخابات جزءا منه أو إلى آلية الأحزاب السياسية ودورها الفعلي أو أي مؤسسة من المؤسسات السياسية في ديناميتها الداخلية. وهنا يلحظ ميلز تعافت هذا المنهج فيرى الباحثين الأمريكيين بعيدين عن أي مشكلة من المشاكل الفعلية للمجتمع الأمريكي ويكتفون بطرح المشاكل في الحدود التي تسمح بها لهم مناهجهم "الموضوعية" فهم ضحايا ما يمكن تسميته "بالإحباط المنهجي" دراساتهم تجمع التفاصيل دون إعطائها أي شكل اللهم إلا الشكل الذي يضعه الطابعون. وجميع هذه الدراسات لو وضعناها الواحدة تلو الأخرى لن نستطيع الإجابة عن المشاكل التي تتعلق بالبنى الإجتماعية أو دينامية السلطة أو التكيف الإجتماعي أو الإتجاهات السياسية ولن تطرح أي قوانين فعلية لتفسيرها.

2- قياس الاراء

تقنية قياس الاراء تخضع للتحديد النظري لمفهومي الرأي والرأي العام ( تقنيات اختيار العينة الممثلة لمختلف فئات المجتمع – تقنية المقابلة والاستبيان, التحليل الاحصائي... ). أي انه كان الرأي التزاما فرديا وتعبيرا عما يقتنع به الفرد يكفي أن نوجه الى الفرد بعض الاسئلة المباشرة أو غير المباشرة ونحاول وضعها وبشكل واضح ومفهوم لا يربك المجيب فنحصل على اجوبة يجب أن تكون هي ايضا واضحة ومفهومة وغير قابلة للتأويل من قبل الباحث.

وهكذا يكون الهدف من مفتاح تعلم تقينة الاستبيان ليس التقرب من الاراء الفعلية للافراد والتي ربما كانت معقدة ومتناقصة وغير واضحة – حتى بالنسبة اليهم احيانا – ولكن الوصول الى الوضوح والتبسيط حتى تصبح الاسئلة (المغلقة ) اي التي تقتصر فيها الاجابة على عدد محدود من الخيارات البسيطة والاجابة اما بنعم او لا. هذا هو نموذج الاستبيان العلمي غير النابل للتحليلات الذاتية والذي نسطيع ترجمته بالارقام والقياسات الكمية والجداول الاحصائية فنحصل على خريطة دقيقة لاراء الافراد. اما بالنسبة الى قياس الرأي العام فلا نستطيع بالطبع الوقوف على اراء جميع الافراد في مجتمع معين, كي نستنتج بعد ذلك المتوسط الاحصائي لهذه الاراء فيجب بالتالي وضع تقنيات وتحديد تصنيفات نظرية تحدد مدى تمثيل جزء من هؤلاء الافراد ( العينة ) لجميع افرد المجتمع الذي نريد معرفة ارائه.

هنا ايضا تخضع تقنيات تمثيل العينة اولا الى تصنيف الباحث لفئات المجتمع المختلفة والى تقديره لمدى انسجام اعضاء هذه الفئات فيما بينهما ( اي أن جزءا منها يمثل فعلا الجميع ) وطبعا للقدرة النظرية والتقنية الوصول الى هذا الجزء المختار. اي انه بكلمة أخرى, يجب على الباحث أن يمتلك أولا معرفة نظرية لجميع أفراد المجتمع المدروس, وما هي حاجاتهم وتطلعاتهم ومشاكلهم الفعلية. ثم عليه أن يحصل على إحصاءات دقيقة تسمح له بتصنيف الفئات المختلفة وتحديد العينة الممثلة لها. فإذا أخطأ في المعرفة النظرية وكيفية التصنيف أو إفتقد الإحصاءات الصحيحة والكاملة فإن قواعد التمثيل وبالتالي معرفة الرأي العام الفعلي تصبح قابلة للتشويه والتأويل. كما أنه يجب أيضا الإشارة إلى مشكلة الوصول إلى هذه العينة الممثلة وإمكانية إقناع أفرادها بالتعبير الصريح والكامل والواضح عن آرائها الفعلية.

وفي حال تم التقيد بجميع الشروط التقنية وتم التغلب على جميع المشكلات المطروحة, وبعد أن نجري التحليلات الإحصائية المعقدة على الأجوبة المختلفة, ونضع الجداول والخرائط الدقيقة, نعود إلى السؤال الأساسي وهو على ماذا حصلنا بواسطة هذه التقنيات الموضوعية الدقيقة؟ لقد رسمنا خريطة لأجوبة الأفراد عن أسئلة وضعها لهم باحثون ظنوا أنها تسمح لهم بالتعبير الفعلي عن آرائهم, وأجربنا عمليات رياضية وإحصائية بسيطة ومعقدة لما يفترض أن يمثل آراء أكثرية أفراد المجتمع وسميناها الرأي العام حول موضوع معين في هذا المجتمع أو داخل هذه الفئة أو تلك.

لقد إفترضنا أن الأفراد يعبرون دائما عن آرائهم الفعلية, وافترضنا أن الرأي العام هو تراكم ومتوسط لمختلف الآراء الفردية. وقد إفترضنا أن مدى الإنسجام بين أفراد المجتمع

( أي تمثيل جزء منهم للمجتمع) يحدد حسب تصنيف للفئات الإجتماعية وضعه الباحث وحدد بنفسه مقياسه وميزات كل فئة من الفئات المصنفة, أي أننا إعتبرنا أن الإنسجام في الرأي موجود داخل الفئات الإقتصادية أو الثقافية أو الجنسية أو العرقية أو الجغرافية...الخ, دون أن نستطيع تحديد أولوية هذا المقياس أو ذاك في مجال التصنيف الإجتماعي. أي أننا لم نحدد أي تصنيف من هذه التصنيفات يعكس بشكل أفضل التقسيمات الإجتماعية الفعلية حول هذا أو ذاك من الموضوعات المطروحة للبحث, وما هو مقياس التصنيف أصلا في تحديد العينة, وكيف يمكن الوثوق بالتبريرات المعطاة لهذا التصنيف؟ في الواقع هناك سلسلة لا نهائية من التساؤلات والإعتراضات التي يمكن أن تثار حول هذه المسألة. وعلى سبيل المثال نلاحظ ما كابده د. سعد الدين إبراهيم في دراسته عن ( اتجاهات الرأي العام العربي نحو مسألة الوحدة..). فقد إعتبر حسب التحديد النظري لمفهوم الرأي العام الذي تبناه أن " المهتمين بمسألة الوحدة هم أساسا أولئك الذين أوتوا قدرا متوسطا أو عاليا من التعليم"... " فهؤلاء هم الذين يشتركون في صناعة القرارات... ويؤثرون في غيرهم من فئات المجتمع الأخرى".

لكنه إصطدم في الواقع بمعضلة تمثيل هذه الفئات في المجتمع, فأفرادها لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من سكان الوطن العربي, لا تتعدى في معظم الأقطار العربية 30 بالمائة من السكان " ... أما أغلبية السكان, وهي من الفلاحين ( والبدو) والعمال ( في الإنتاج والخدمات) فهم جميعا من الأميين أو دون المتوسط من حي التعليم" .

وقد حاول حل المشكلة بتمثيل هذه الفئات في الدراسة لكن بنسب أدنى بكثير من عددها الفعلي داخل المجتمع. وتقرر أن يكون حجم العينات من هذه الفئات موحدا في كل الأقطار العربية بصرف النظر عن الثقل السكاني لكل قطر " نظرا لدرجة التجانس العالية بين كل من العمال والفلاحين( والبدو في بعض الأقطار) ".

نرى هنا كيف أن مشكلة إختيار العينة وتمثيلها ليست مشكلة تقنية بل هي أولا وأساسا مشكلة منهجية أيديولوجية تتعلق باختيارات الباحث النظرية والسياسية والثقافية وبالمفاهيم التي يتبناها والتي تبقى عرضة للنقد والرفض مهما بلغت التبريرات والمراجع والتعقيدات "العلمية" المستخدمة. لماذا يكون مقياس التصنيف في التمثيل مقياسا مهنيا؟ أو يكون المقياس مستوى التعليم؟ وأين ذهبت فئة النساء؟ هل هي أيضا هامشية في تكوين الرأي العام؟ أم أن مدى إنسجامها مع فئات الرجال كبيرة؟ ألا تمثل نسبة كبيرة من أعداد المجتمع؟ ..

من ناحية أخرى عندما نأخذ كل فئة من الفئات الإجتماعية الممثلة في العينة هل نتعامل مع المجتمع ككل وداخل كل فئة على أساس أفقي طبقي؟ وهل نعتبر أن الإنسجام في الرأي بين العمال أو بين الفلاحين أو بين الأطباء, يسمح لجزء منهم أن يمثل الجميع؟ فعندما نأخذ عينة تمثل طبقة العمال أو الأطباء أو الأساتذة يفترض أن العمال أو الأطباء أو الأساتذة يحملون آراء فردية مشتركة مما يسمح لعينة أن تمثل الجميع. ولكن كيف العمل في بلد مثل لبنان حيث تتداخل البنية الطائفية مثلا مع التصنيف المهني؟! هنا سنضطر إلى الدخول في تصنيف جديد وفي داخل كل فئة جديدة سنواجه مشكلة أخرى ومقياسا آخر لتصنيف فرعي جديد. وبهذا يصبح من المشروع لنا أن نطرح عشرات التساؤلات ونثير عشرات الإعتراضات حول مدى "علمية" هذه التقنية و "موضوعيتها" وقدرتها على إعطاء صورة صحيحة, أو حتى تقريبية, عن الواقع الإجتماعي المعطى والآراء الفعلية لمختلف فئات المجتمع.

ثانيا: دراسة الآراء الفردية والجماعية في المجتمعات العربية

يمكن تقديم عدد من الملاحظات حول تطبيق المبادىء والتقنيات في علم الإجتماع الغربي, على معرفة الآراء في المجتمعات العربية:

1- حول تعريف الرأي العام والعلاقة بين الفرد والجماعة

إن مفهوم الرأي العام كما يحدده علم الإجتماع الغربي لعني وجود آراء فردية بمعنى أنها خاصة بكل فرد من الأفراد ويعني أيضا إمكانية التعبير الفردي الخاص عن هذه الآراء. فمفهوم الرأي العام يرتبط إذا بمفهوم معين لحرية الفرد ومكانته داخل الجماعة وإستقلاليته وبمفهوم المساواة التامة بين آراء جميع الأفراد داخل هذه الجماعة, أي أن آراء كل فرد من الأفرادلها القيمة الإحصائية نفسها وتستطيع التعبير عن نفسها بحرية وإستقلالية تامة بحيث نستطيع فعلا القول إن معرفة الرأي العام حول موضوع معين ليست إلا عملية إحصائية نستخلصها من قياس متوسط آراء جميع أفراد مجتمع محدد. فهل هذه المسلمات النظرية موجودة أيضا في مجتمعاتنا؟

ــ هل أن مفهوم الفرد وإستقلالية آرائه وحرية التعبير عنها له المحتوى نفسه الذي إفترضه علماء الإجتماع الغربيون في مجتمعاتهم التي تجعل من الفرد رقما في جداول الإحصاء؟ ماذا يعني مبدأ مساواة جميع الأفراد, أي, إعتبار كل رأي من الآراء الفردية- مهما كانت صفات حامله الإجتماعية- وحدة قياسية في الجداول الإحصائية؟ هل لرأي كل فرد من أفراد الجماعة في مجتمعاتنا- رجالا ونساء وشيوخا ورجال دين- القيمة الإحصائية نفسها والتعبير نفسه كي نستنتج أن "متوسط" آرائهم يشكل الرأي العام داخل هذه الجماعة؟ هل الرأي العام ليس إلا متوسطا إحصائيا للآراء الفردية؟ هل للفرد فعلا الأولوية الأساسية وإن مجموع الأفراد وتراكم آرائهم هما اللذان يشكلان الآراء الجماعية؟ لماذا لا نرى أن الأولوية في مجتمعاتنا هي للآراء الجماعية التي تتكون حسب عوامل وشروط إجتماعية وإقتصادية وفكرية.. لا علاقة مباشرة لها بالفرد كوحدة قياسية فيها, ومن ثم يحدد الفرد آراءه ضمن هذه الحدود للآراء " الجماعية" ويعبر عنها بقدر ما تسمح له الجماعة بذلك, أو يسمح له إرتباطه بالجماعة؟

إن الآراء الفردية لا يعبر عنها بشكل مستقل ولا تتميز بتميز الأفراد كأفراد بل حسب إنتماءاتهم الإجتماعية المختلفة ( العائلة, العشيرة, الطائفة...الخ) وحسب مكانة كل منهم داخل هذه الجماعة أو تلك. ولا يعني الإنتماء هنا مجرد تصنف للفئات الإجتماعية المختلفة أي أنه ليس لرأي كل فرد من الأفراد داخل هذه الإنتماءات القيمة نفسها في تحديد الآراء الجماعية وليس لكل تصنيف لفئات المجتمع مجرد قيمة إحصائية تستخدم لوضع جداول أكثر وضوحا فقط.

وإذا اعتبرنا أن رأي الجماعة أو " الرأي الجماعي" هو الذي يقرر كيفية التعبير عن الآراء الفردية فلماذا لا نبحث عن وسائل تستطيع تحديد إتجاهات هذا الرأي الجماعي بشكل مباشر ودون اللجوء إلى قياس الآراء الفردية أولا؟ فنقوم مثلا بدراسة كيفية تطبيق فكرة وحدة الجماعة والشورى في الإسلام, وكيف كانت تتحقق هذه الوحدة من خلال إختيار الممثلين الحقيقيين للوحدات الإجتماعية والجماعات والعقيدة للحصول من خلالهم على وحدة الآراء داخل الجماعة. ويمكن أن نطرح على سبيل المثال, أسئلة أكثر عمقا وأهمية في هذا المجال: ما هي ديناميات التغيير في " الرأي الجماعي" للجماعة الموحدة؟ متى تكون الوحدة في الرأي على أشدها؟ ومتى تنقسم؟ ومتى تحدث فيها إختراقات؟

وبكلمة أدق, يصبح هنا مفهوم " الرأي العام" مفهوما مختلفا, ومفهوم الفرد مفهوما مختلفا, أي أنه لا يعود إعتبار كل فرد من الأفراد كيانا مستقلا مميزا عن الآخرين بل تحدد طبيعة آرائه بالنسبة إلى علاقته بالجماعات المختلفة التي ينتمي إليها. وفي الوقت نفسه لا يعود كل فرد من أفراد المجتمع مجرد رقم إحصائي نستطيع إبدال رقم آخر به في تحديد العينة بل تصبح آراء بعض الأفراد ( نتيجة مكانتهم الإجتماعية وتأثيراتهم في الآخرين ) أكثر أهمية ويجب معرفتها أولا كي نستطيع فعلا معرفة آراء بقية أعضاء الجماعة.

بتحليل للايديولوجيات والبنى الاجتماعية السائدة والظروف الواقعية للمجتمع وبتحديد دقيق للمفاهيم النظرية المختلفة التي يتركز عليها بحثنا, ومن ثم نستطيع الانتقال الى رصد اتجاهات الرأي حول هذا او ذاك من المواضيع.

2-العلاقة بين موضوع البحث والمفاهيم المستخدمة واهدافه

ان اختصار معرفة الرأي العام الى وصف احصائي لبعض اوجه الواقع وتحويله الى مجرد قياس بحث يجعل التركيز على تقنيات القياس والتحليل الكمي هاجس ((الموضوعية)) و(( المعرفة العلمية الدقيقة )). ان هذا الاختيار يشكل سمة عامة لجميع الابحاث الاجتماعية ويرتبط باهداف علم الاجتماع الغربي الذي لم يطمح يوما الى تحليل فعلي للواقع الاجتماعي بل كان دائما يرهن ابحاثه المتعددة باهداف تطبيقه لها علاقة بالاهداف التجارية او السياسية للمؤسسات المختلفة التي تقوم بالبحث. وهذا واضح بشكل خاص في مجال الابحاث حول الرأي العام, فنظرة سريعة الى تاريخ تطور هذه الابحاث وتقنيات قياس الاراء والاتجاهات تظهر مدى ارتباطها بالمؤسسات التجارية والانتخابية المختلفة كمؤسسة Gallupالتي كانت اول من وضع تقنية استقصاء الرأي العام, او مؤسسة Harris, التي قامت بالحملة الانتخابية للرئيس كندي, وجميع مؤسسات دراسة الاسواق التي وضعت اسس الدعاية التجارية السائدة.

هذه المؤسسات هي التي وضعت تقنيات قياس الرأي وطورتها دحددت مقاييسها وذلك ضمن ما كانت تهدف اليه لاغراض الدعاية التجارية او الدعاية الانتخابية, اي أنها اكتفت مثلا برصد الاتجهات الانتخابية لمختلف فئات المجتمع الامريكي, ورسم خريطة شاملة لتوزيع هذه الاتجهات. ولكنها لم تحاول ولم تطمح يوما الى تحليل فعلي للبنى السياسية لهذا الجتمع, او للمصادر الاساسية والرئيسية في تكوين هذه او تلك من الاتجهات العميقة, وهذا ما جعلها ترتكب احيانا اخطاء فادحة في الحسابات الانتخابية ( كنتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية الاخيرة اواخر عام 1980 مثلا ), وتركها عاجزة عن تقدير دقيق أو تفسير للإتجاهات ( الإنتخابات الفرنسية الرئاسية ). وهذا ضمن أهدافها وطموحاتها. أما في ما يتعلق بالإتجاهات العميقة والمشاكل الفعلية التي يصطدم بها المجتمع الغربي كالعنصرية مثلا, فهي لم تستطع تقديم أي نظرية متكاملة حول جذور تكوين هذه الإتجاهات وشروط تغييرها بل إكتفت بوضع لوائح ( كانت في أحيان كثيرة متناقضة ) للعوامل المختلفة التي لها تأثير مباشر أو غير مباشر في تكوين إتجاهات عنصرية أو رسمت خرائط وجداول إحصائية عديدة حول توزيع هذه الإتجاهات داخل الفئات الإجتماعية ( الإقتصادية والثقافية والجغرافية...) المختلفة.

فلماذا نقبل نحن هذه الأهداف؟ وهل هذه هي حدود البحث العلمي؟ ولماذا نتبنى هذه المقاييس وتلك التقنيات باعتبارها الحد الأقصى لكل ما هو علمي وموضوعي؟ يجب أولا أن نحدد أهدافنا الخاصة, ماذا نريد فعلا أن نعرف؟ ولماذا نريد فعلا أن نعرفه؟ ومن ثم نبحث عن ادوات رصد وتحليل وتقنيات تستطيع أن تحقق لنا فعلا هذه الأهداف.

إن هذه الطريقة شاقة دون ريب وتتطلب تضافرا في الجهود وجرأة في ابتكار وسائل باهظة وكوادر بشرية كثيرة لكنها لا تؤدي إلا إلى نتائج جزئية ومحدودة ومملوءة بالشوائب التقنية ولا تفي بالتالي بالأهداف الأساسية التي نريد تحقيقها من البحث الإجتماعي.

3-حول تقنيات قياس الرأي والرأي العام

إن تقنيات إختيار العينة والإستبيان والتحليل الإحصائي مرتبطة حتما بالمفاهيم النظرية للبحث كما هي مرتبطة بأهداف البحث وبالظروف المادية والحضارية والثقافية والسياسية والإقتصادية للمجتمع.

إن تحديد الرأي والرأي العام في علم الإجتماع الغربي مرتبط بمقاييس وصيغة كمية إحصائية. وحتى مفهوم الإتجاه attitude" ", فعلى الرغم من إعتباره أكثر عمقا وارتباطا بالجوانب الذاتية إلا أن إمكانية دراسته تبقى ( حسب مقاييس "الموضوعية" ) مرتبطة باحتمالات قياس التعبيرات الخارجية والعناصر العقلانية؛ كالآراء بشكل أساسي أو التعبيرات الأخرى كالسلوك أو الإنفعال أو المواقف المختلفة... مع أن هذه الأخيرة لا تشكل دائما عناصر دقيقة "موضوعية " تستطيع أن تساهم في البحث العلمي عن محتوى الإتجاهات أو مصادر تكوينها.

وهنا أيضا نتساءل لماذا يجب أن يكون قياس الآراء بواسطة الإستبيان أو "المقابلة" هو المصدر الأساسي في دراسة الإتجاهات دراسة علمية؟ ألا يوجد مصادر أخرى لا تقل أهمية أو دقة عنها, يمكن الإعتماد عليها كدراسة العوامل التاريخية والعناصر الأيديولوجية والعادات والتقليد والعقائد؟ أما الإستبيان فقد يكون أحد عناصر البحث ولكن أدناها أهمية ومرتبة؟ هذا إذا بقينا واقعين تحت أسر التقنيات الغربية ولم يقدر لنا أن نبدع تقنياتنا الخاصة في البحث عن الإتجاهات وحقيقتها في لحظة تاريخية معطاة.

فإذا أردنا مثلا أن ندرس إتجاهات الطائفة الشيعية في لبنان نحو الوحدة العربية عموما أو وحدة أي بلدين عربيين, فهل نبدأ بوضع إستبيان يوجه إلى عينة ممثلة, ام أن ثمة تقنيات ومصادر أكثر علمية للوصول إلى هذه المعرفة؟ مثلا:

- دراسة الفكر الشيعي وما يحمله من توجه نحو الوحدة عموما وفي الحالات التفصيلية التي سبق وحدد موقفه منها.

- دراسة تاريخ الشيعة والدور الذي لعبه مختلف الفئات في مراحل الوحدة أو الإنفصال التي عرفها التاريخ العربي والإسلامي.

- معرفة آراء القادة الدينيين والسياسيين في الوقت الراهن بالنسبة إلى موضوع البحث لما لذلك من تأثير في تحديد الرأي العام داخل الطائفة.

- دراسة موقف الوحدات والفئات الإجتماعيةالأخرى المتحالفة أو المتخاصمة عم الطائفة الشيعية حول الوحدة المذكورة.

هنا فقط يمكن وضع نوع من الإستبيان وإجراء عدد من المقابلات تتم في إطار معين. وكنتيجة لتحليل العناصر التي أظهرتها الدراسة ولا ترتبط أبدا بشروط تقنيات العينة الممثلة, ووضع الأسئلة والتحليل الكمي للأجوبة كما حددها الباحثون الغربيون. فالأسئلة هنا تأخذ معنى آخر, " والعينة الممثلة " تخضع لشروط مختلفة, وتحليل النتائج على أسس مختلفة ويرتبط بالدراسات السابقة ولا يكتفي بالتعليق على العمليات الإحصائية.

من ناحية أخرى إن تحديد الرأي العام كمتوسط إحصائي للآراء الفردية يعني أنه يجب علينا اختيار تقنيات تسمح بتحديد دقيق لطبيعة الأكثرية التي تمثل الرأي العام. ومن هم الأفراد الذين يجب علينا قياس اتجاهاتهم؟ هل هم يمثلون فعلا جميع أفراد المجتمع؟ هل يجب علينا الأخذ بعين الإعتبار جميع أفراد المجتمع بالمعنى الشمولي للكلمة أم أننا نكتفي بالبعض؟ على أي مقياس نرتكز لنحدد أن هذا البعض يعني الجميع؟ فتعود المعضلة لتصبح هنا معضلة نظرية أولا, أي أنها بتحديد المفاهيم للرأي والرأي العام والعلاقة بين الفرد والجماعة, والمقاييس التي يتم على أساسها تصنيف الفئات المختلفة التي تتكون منها العينة. فنرى مثلا كيف يجيب سعدالدين إبراهيم عن هذه المشكلة في دراسته: " حول اتجاهات الرأي العام العربي نحو مسألة الوحدة", فهو يضطر إلى إيجاد تبريرات نظرية عديدة لتحديد الفئات التي تمثل الرأي العام, ويربط المشاكل التقنية بالتعريف السائد للرأي العام فيقول مثلا ... " إن قياس اتجاهات الرأي العام نحو الوحدة يعني - اتساقا مع التعريف- أن نحدد الجمهور أو الجماهير المهمة بمطلب التوحيد السياسي للوطن العربي وبالتالي تدرك تأثير هذا المطلب في حياتها بالإيجاب أو السلب وبالتالي تكون على استعداد لإتخاذ موقف أو التعبير عن رأي يصدد مسألة الوحدة ". فتصبح الفئات "الممثلة" للرأي العام حول الوحدة هي فئات الذين أوتوا قدرا متوسطا أو عاليا من التعليم.

لكن المشكلة المشار إليها في هذا التحديد للعينة الممثلة تبدو للباحث مشكلة تقنيةفيقول أن هذا " الجمهور" لا يمثل إلا نسبة ضئيلة من سكان الوطن العربي لا تتعدى 30% في معظم الأقطار العربية. أما أغلبية السكان فهي من الفلاحين والبدو والعمال وهم جميعا من الأميين أو دون المتوسط.. " أي أن جماهير الفلاحين والعمال في الأقطار العربية رغم ضخامة عددها ودورها الإنتاجي الهائل ما زالت هامشية في تكوين " الرأي العام" بالمعنى الذي إصطلح عليه العلماء الإجتماعيون..".

فالمفاهيم الأساسية في تمثيل العينة رغم أنها تبدو مشكلة تقنية هي أساسا مشكلة نظرية, كما سبق وذكر. وهي ثانيا – وبشكل ثانوي- مشكلة تقنية, فتأتي مثلا مشكلة وجود الإحصاءات الدقيقة ومشكلة سحب العينة إذا كانت من النوع الإحتمالي ومشكلة الوصول إلى الأفراد الذين وقع عليهم الإختيار... الخ, في مرتبة ثانوية إذا ما حلت مشكلة التحديد النظري. أما بالنسبة لتقنية الإستبيان فنستطيع أن نبرز الملاحظات نفسها أي أن المشكلة الأساسية في استخدام الإستبيان هي أولا وأساسا نظرية تتعلق بمبدأ الإستبيان نفسه وسماته وليس بمحتواه أو تفاصيل هذا السؤال أو ذاك.

فكيف نصل إلى جعل الذين نسألهم يجيبون بدقة وصراحة وبساطة عن الأسئلة المطروحة إذا كان أسلوب الكلام والأحاديث اليومية في مجتمعاتنا ليس مباشرا ولا بسيطا ولا دقيقا. فنحن لا نجيب عادة بنعم أو لا عن أي سؤال ولا يطرح أحد علينا أسئلة مباشرة ودقيقة, بل نستخدم عادة عبارات وتعقيدات لغوية ومقدمات ومجاملات عديدة كي نتوصل إلى معرفة رأي أحدهم بموضوع معين, هذا في أحاديثنا اليومية فكيف عندما نتوجه إلى باحث لا نعرفه, ولم نره غي حياتنا من قبل, ولا يعرف تماما ماذا نريد أن نفعل بهذه الأجوبة؟ بل كيف نستطيع في قرية صغيرة مثلا, أو في حي شعبي أن نختلي بفرد واحد في جلسة طويلة دون أن يحيط بنا فورا جمهور واسع من أفراد عائلته وأقربائه وجيرانه؟ الإجابة في هذا الحال تتوجه إلى هذا الجمهور المستمع أكثر منها إلى الباحث الذي يطرح السؤال دون أن ننسى طبعا كل التصورات والإحتمالات التي يكونها عن الجهة التي تقوم بالبحث وعن استخدام أجوبته وعن صفة الذي يطرح الأسئلة (وسيظل لديه تساؤلات وتحفظات مهما وضحنا له هذه الصفة ومهما أوردنا من التطمينات على تساؤلاته المتخوفة ).

فهل نستطيع القول في هذه الحالة أن الإستبيان هو الأداة نفسها التي وضعها الباحثون الغربيون لأغراد تربوا على الفردية والتمايز والحياة الفردية الخاصة, والإختصار في الكلام والأسلوب المباشر ولا يخشون المخابرات العسكرية ولا يبالون بما يفكر عمهم أو جارهم أو الشيخ أو المختار؟

ويشكل مبدأ استخدام الإحصاءات الدقيقة والكوادر البشرية المدربة والتحليلات الإحصائية المتطورة والآلات الحاسبة المعقدة – بغض النظر عن جميع الاشكالات النظرية والمنهجية والسياسية التي أثرناها, معضلة فعلية في بلادنا. فليست لدينا أي إحصاءات دقيقة وصحيحة حسب المقاييس والشروط الموضوعة في هذه التقنيات. وليست لدينا دائما كوادر بشرية وآلات كافية للقيام بهذه الحسابات بشكل مرض, وإن وجدت فإن تكاليفها باهظة بالنسبة إلى ما هو مطلوب, والجهود المبذولة كبيرة والوقت الذي تستغرقه طويل.

وأخيرا نكتشف أن جميع هذه المحاولات لا تفي دائما بالشروط الموضوعية ونضطر في كل مرحلة من المراحل إلى إيجاد بدائل تقنية ترتكز على تبريرات نظرية وعقلانية ليست دائما مقبولة. لكننا نعتبر أن هذه الجهود هي في المحصلة خطوات متقدمة بالنسبة إلى ما هو موجود حتى الآن آملين أن نتمكن في المستقبل من تحسين هذه الشروط حتى تصبح مطابقة للشروط الموضوعة في الولايات المتحدة.

وهذه التقنيات تتطور باستمرار, وتصبح الآلات أكثر تعقيدا , والإحصاءات أكثر دقة, والكوادر البشرية أكثر كفاءة ونظل نلهث نحن وراءها آملين أن نكون في المرة المقبلة أكثر توفيقا. ولكن لماذا يجب دائما أن نحاول نقل هذه التقنيات؟ هل الإقتراب من الشروط الموضوعة لها هو فعلا الطريق الوحيد للبحث العلمي والموضوعي؟ لماذا يجب أن تكون الإحصاءات والقياس الكمي والإستبيان والتحليل الإحصائي هي مقاييس الموضوعية في البحث الإجتماعي؟ أليست هذه مجرد تقنيات وأدوات لا تقصد لذاتها وإنما يراد منها تحقيق أهداف معينة, وعندما لا يكون بمقدورها الإيفاء بتلك الأهداف فأي قيمة تبقى لها؟ ثم, هل صحيح أننا لم نجر في الماضي أي أبحاث علمية, ولم نمتلك أي معرفة دقيقة وموضوعية لواقع مجتمعاتنا قبل إكتشاف التقنيات الحديثة لعلم الإجتماع؟ إن علماء العرب كانوا السباقين في إكتشاف أدوات التحليل العلمية والمفاهيم النظرية القادرة على تحليل الواقع الإجتماعي, فلماذا لا نبحث عن أدوات تحليل الواقع في كتاباتهم وندرس تدوين ملاحظاتهم بالجدية نفسها التي نبحث بها في أدبيات علم الإجتماع الأمريكي؟ ولا نعني هنا ابن سينا أو اين خلدون فقط بل عشرات المجتهدين والعلماء الذين دونوا وبحثوا وكتبوا عشرات المؤلفات القيمة عن البنى الإجتماعية والسياسية والإقتصادية في المجتمع الذي عاصروه, وطرحوا نظريات أكثر جدارة بالإهتمام من نظريات "مرتون" أو "ستوفر" أو "نيوكوب".

كما أن استقصاء دقيقا لمجموع المعارف والمعلومات التي يمتلكها القادة المحليون وعدد كبير من معاونيهم حول وحداتهم الإجتماعية ( عشائرهم- قراهم – مناطقهم... ) والوحدات الإجتماعية المجاورة لهم سوف تجعل أي باحث يذهل من تلك المعارف والمعلومات العامة والتفصيلية التي لا يستطيع أي استبيان مهما بلغت دقة أسئلته أو أي عينة حتى لو كانت تمثيلية ( حسب المقاييس الإحصائية ) أن يقدمها له. كما أن ملاحظة الوسائل التي يستخدمها هؤلاء القادة لقياس الحال اليومية في وحداتهم والوحدات المجاورة لهم أو التي لهم إحتكاك بها وتقديرهم لما يمكن أن يطرأ على هذه الحال من تغييرات كمية أو نوعية تجعل النتائج التي يتوصل إليها أي باحث إجتماعي يطبق التقنيات الغربية تبدو ضئيلة جدا ودون فائدة كبيرة.

لندرس هذه الكتابات بعمق وجد فقد نعثر على مفاهيم نظرية وأدوات تحليل تساعدنا في إبتكار الوسائل العلمية لمعرفة واقعنا الإجتماعي وتحليله تحليلا موضوعيا صحيحا. ومن ناحية أخرى نحن بحاجة قبل أن نشرع بكشف الوسائل والتقنيات إلى نظرية متكاملة نستطيع من خلالها أن ننظر إلى واقع مجتمعاتنا نظرة مستقلة صحيحة تساعدنا على وضع المفاهيم النظرية القادرة على تفسير واقع هو واقع مختلف فعلا وبشكل جذري في بنيته الحالية, وفي تطوره التاريخي, وفي تكوين مؤسساته, وفي طبيعة العلاقات الإجتماعية, وفي طبيعة تكوين شخصية الأفراد, وفي تشكيلهم العقائدي والأيديولوجي والحضاري... الخ.

أما القول إن علم الإجتماع الحديث يعترف بهذا الإختلاف ويحاول كشفه وتحديد سماته, فإنه خاطئ بالأساس, لأن استخدام مفاهيم يقال عنها أنها عامة ( عندما تكون مستقاة من واقع واحد مميز هو واقع المجتمعات الغربية الصناعية ) لكشف هذه الخصوصيات يعني أن هذه المفاهيم هي المقياس الوحيد والأصل الصالح للجميع وأن الفروقات المكتشفة هي دائما مدروسة بالنسبة إلى المقياس الأساسي. وبهذا يكون الغرب هو المصدر, والمجتمعات الأخرى هي مادة للمقارنة أو بالحري موضوعا للدراسات الإنتروبولوجية علم الإجتماع يملك النظرية عن المجتمع والفرد وعن الأخلاق وعن المثل العلمية ويرى المجتمعات الأخرى مختلفة ومتخلفة بدائية. ومهما يكن بحث هذه المجتمعات دقيقا فلن يتناول إلا الجوانب التي يستطيع العلم " المكرس " دراستها وفهمها بالنسبة إلى مقاييسه ومفاهيمه ونظرياته عن الفرد والمجتمع.

أما الباحثون العرب الذين يتمثلون بالباحثين الغربيين فلا يختلفون عنهم بنظرتهم إلى مجتمعاتهم, فهم يدرسون تاريخهم وتراثهم ومؤسساتهم الماضية والمعاصرة وشعوبهم وأخلاقها وأفكارها بنظرة العالم الغربي ( العلمي والموضوعي) الذي يحاول رصد المعلومات ورسم الواقع الإجتماعي بمنظار خارجي غريب عن هذا الواقع وبالنسبة إلى مقاييس لا تمت إلى واقعهم بصلة وليس لهم أي فضل إلا في نقلها؛ كالتلميذ المجتهد الذي لا يجرؤ أن يتوجه حتى بسؤال توضيحي إلى معلمه, فيفرح عندما يلاحظ شيئا ما تعلمه في الأدبيات " العلمية " وما رآه في المجتمعات التي هي مصدر " العلم" ويحزن عندما يرى بنى أو مؤسسات أو أفرادا يختلفون عن هذا المصدر. فيشرع بوضع النصائح لشعبه وطرح الحلول الصحيحة والعلمية كي يصبح هذا الشعب " متقدما" و" متطورا" ومحبا " للعلم" و" للمنطق". فالباحث هو الذي يمتلك الحقيقة والمعرفة, حتى وسائل التقدم والسعادة, فيحاول رصد ووصف الواقع المتخلف بمقاييسه الأصلية والمنطقية والعلمية, وعد هذا الوصف الموضوعي العقلاني ( يمقاييس علم الإجتماع ) يحاول طرح الحلول الملائمة لتغيير هذا الواقع وتطويره بالإتجاه الذي يعتبره تقدما وطريق السعادة للبشرية جمعاء. أي ما اعتبره وأقنعه له أساتذته الذين يملكون مفاتيح

" العلم والمنطق والموضوعية والتطور".

خـاتمــــة

إن المفاتيح النظرية والتقنية لمعرفة واقعنا لن تأتينا من المجتمعات الأخرى مهما بلغت دقتها وتجربتها (حتى لو افترضنا جدلا أن مفاهيمهم علمية في تطبيقاتها على مجتمعاتهم ) ومهما بلغ اعجابنا باكتشافاتهم فان مجتمعاتنا مختلفة جذريا ويجب ان نكون بانفسنا – باستخدام تراثنا العلمي وتجربتنا الفعلية وملاحظاتنا الخاصة – خريطة لواقعها. وننظر اليها نظرة مجردة فعلا ( اي مجردة من جميع هذه المفاهيم المنقولة ) خالية من الاحتقار وهاجس المقارنة ولا نعود مبادئ ومثل جاهزة في اذهاننا.

هذا هو الشرط الأول للوصول إلى تكوين مفاهيم نظرية قادرة على فهم الواقع وتفسيره ولاستكشاف وسائل علمية ودقيقة قادرة على رصد مختلف جوانب هذا الواقع وتعقيداته وتحليلها بشكل صحيح. إنه طريق شاق ويتطلب جهودا كبيرة وقد يمر بتجارب كثيرة غير مجدية ويفتح الباب واسعا للصراعات الفكرية والأيديولوجية لكنه سيكون في جميع الأحوال أكثر جدية وأكثر فائدة من هذه المحاولات المتكررة لنقل نظريات وتقنيات قد تأتي ببعض المعلومات عن هذا الموضوع أو ذاك لكنها لن تستطيع بالتأكيد - والشواهد كثيرة – أن تكون نظرية متكاملة قادرة على تحليل واقعنا الإجتماعي ومعرفة إتجاهات تطوره وإمكانات التغيير والتقدم الفعلي له.

http://www.najah.edu/index.php?news_id=5451&page=3171&l=ar

No comments:

Post a Comment